في السابع والعشرين من تمّوز الجاري، ألقى المتروبوليت ليونيد الإكسارخوس البطريركيّ في أفريقيا كلمة بموضوع “أسس التعليم الكنسيّ حول العائلة وتربية الأولاد: التقاليد والحداثة”، وذلك، خلال جلسة “التعاون في مجال حمايّة حقوق الأطفال: اتّجاهات التطوّر وأشكال التفاعل” التي نُظِّمت في إطار أعمال المنتدى الاقتصادي والإغاثيّ الثاني روسيا – أفريقيا.
جاء في الكلمة:
الإخوة والأخوات الأعزّاء!
يقول ربّنا يسوع المسيح: “دعوا الأطفال، لا تمنعوهم أن يأتوا إليّ، فإنّ لأمثال هؤلاء ملكوت السماوات” (متّى 19:14). كما يتنبّأ بمصير سيّئ للذين يزرعون الإغراءات ويقتلون أرواح الأطفال الهشّة قائلاً: “وأمّا الذي يكون حجر عثرة لأحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي فأولى به أن تعلّق الرحى في عنقه ويلقى في عرض البحر. (متّى18:6).
أكملت المسيحيّة أفكار العهد القديم ومعتقدات الوثنيّة حول الزواج بالصورة الساميّة لاتّحاد المسيح والكنيسة. بالنسبة للمسيحيّين، أصبح الزواج ليس مجرّد عقد قانونيّ، ووسيلة لإنجاب وإشباع الحاجات الطبيعيّة المؤقّتة، ولكن، كما قال القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، “سرّ المحبّة”، الوحدة الأبديّة للزوجين مع بعضهما البعض في الربّ المسيح.
تصرّ الكنيسة على إخلاص الزوجين مدى الحياة وعدم انحلال الزواج المسيحيّ.
يسمّي القدّيس إكليمندس الإسكندريّ ّ العائلة وكذلك الكنيسة، بيت الربّ، ويسمّي القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم العائلة “كنيسة صغيرة”. وكتب: “سأقول، أيضاً، إنّ الزواج هو صورة سرّيّة للكنيسة”. تتكوّن الكنيسة المنزليّة من رجل وإمرأة يحبّان بعضهما البعض، ومتّحدان في سرّ الزواج ويطمحان إلى الاتّحاد بالمسيح. إنّ ثمار حبّهما ووحدتهما هم الأبناء، وتعتبر ولادتهم وتربيتهم، بحسب التعاليم الأرثوذكسيّة، من أهم أهداف الزواج.
ويقول النبيّ داود في المزمار: “هوذا البنون ميراث من عند الربّ ثمرة البطن أجرة” (مزمور 126:3).
يرشدنا القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم قائلاً:” الأطفال ليسوا اكتساباً صدفيّاً، بل نحن مسؤولون عن خلاصهم … إهمال الأطفال هو أعظم الذنوب، يؤدّي إلى معصية شديدة … ليس لدينا عذر إذا كان أطفالنا فاسدين”. ويعلّم القدّيس أفرام السريانيّ: “طوبى لمن يربّي الأولاد على طريق الخلاص”. ونسمع في الوصيّة الخامسة من شريعة النبيّ موسى: “اكرم أباك وأمّك لكي تطول أيّامك على الأرض التي يعطيك الربّ الهك” (الخروج، 20:12).
إنّ العائلة ككنيسة منزليّة هي كائن حيّ واحد يعيش أفراده ويبنون علاقاتهم على أساس قانون المحبّة. تعلّم تجربة التواصل العائليّ الشخصَ على التغلّب على الأنانيّة الخاطئة وتضع أسس المواطنة السليمة. في العائلة، التي هي مدرسة التقوى، يتمّ تشكيل وتقويّة الموقف الصحيح تجاه الأقرباء، وبالتالي تجاه الشعب، تجاه المجتمع بشكل عامّ. تبدأ الخلافة الحيّة للأجيال من العائلة، تجد استمرارها في محبّة الأجداد والوطن، بمعنى الانتماء إلى التاريخ. لذلك، من الخطير للغاية تدمير الروابط التقليديّة بين الآباء والأطفال، والتي، للأسف، يتمّ تسهيلها إلى حدّ كبير من خلال أسلوب حياة المجتمع المعاصر.
أصبح اليتم بوجود الوالدين الأحياء محنة صارخة في المجتمع الحديث. يشهد آلاف الأطفال المهجورين الذين يملأون الملاجئ وأحياناً يعيشون في الشوارع، وليس لديهم بيوت، على تدهور صحّة المجتمع بشكل عميق. من خلال تقديم المساعدات الروحيّة والمادّيّة لهؤلاء الأطفال، والاهتمام بانخراطهم في الحياة الروحيّة والاجتماعيّة، ترى الكنيسة أنّه واجبها الأساس تقويّة العائلة وتوعية الوالدين لدعوتهم لاستبعاد مأساة من تمّ التخلّي عنهم من الأطفال.
إن دعايّة الرذيلة تلحق ضرراً خاصّاً بأرواح الأطفال والشباب غير الثابتين في الحياة. في الكتب والأفلام ومقاطع الفيديو الأخرى وفي وسائل الإعلام وفي بعض البرامج التعليميّة، غالبًا ما يعلّمون المراهقين مفهوم الجنس الذي يهين بشدّة كرامة الإنسان، حيث لا مكان فيه لمفاهيم البتوليّة والإخلاص الزوجيّ والمحبّة المضحّية. لذلك تدعو الكنيسة المؤمنين، بالتعاون مع كلّ الفئات الأخلاقيّة السليمة، إلى محاربة انتشار هذا الإغراء الشيطانيّ الذي يساهم في تدمير الأسرة وتقويض أسس المجتمع.
على المدرسة أن تقف جنباً إلى جنب مع العائلة، وأن تخبر الأطفال والمراهقين وتعرّفهم ما هي العلاقات بين الجنسين والطبيعة الجسديّة للإنسان. لا تستطيع الكنيسة دعم برامج “التربية الجنسيّة” التي تعترف بالعلاقات قبل الزواج وكأنّها شيء طبيعيّ، بل وأكثر من ذلك، تشجّع مختلف الانحرافات. إنّ فرض مثل هذه البرامج على الطلّاب أمر غير مقبول على الإطلاق. صُمّمت المدرسة لمقاومة الرذيلة التي تدمّر نزاهة الفرد، ولتثقيف عن البتوليّة، وإعداد الشباب لتكوين عائلة قويّة تقوم على الولاء والنقاء.
منذ العصور القديمة، اعتبرت الكنيسة الإنهاء المتعمّد للحمل (الإجهاض) خطيئة جسيمة. تساوي القوانين الكنسيّة الإجهاض بالقتل. يعتمد هذا التقييم على الاقتناع بأنّ ولادة الإنسان هي عطيّة من الله، وبالتالي، تعتبر أنّ من لحظة الحمل تبدأ حياة الإنسان المستقبل ومحاولات إنهائها نعتبرها كجريمة.
تعتبر الكنيسة الانتشار الواسع للإجهاض وتبريره في المجتمع المعاصر تهديداً لمستقبل البشريّة وعلامة واضحة على التدهور الأخلاقيّ. إنّ الولاء لتعاليم الكتاب المقدّس والآباء حول قداسة الحياة البشريّة وعدم تقديرها منذ بداياتها يتعارض مع الاعتراف بـ “حرّيّة الاختيار” للمرأة التي تتحكم في مصير الجنين. كما تعتبر الكنيسة، دائماً، أنّه من واجبها الدفاع عن البشر الأكثر ضعفًا ومعتمداً وهم الأطفال الذين لم يولدوا بعد.
تدعو الكنيسة، من دون الرفض، النساء اللواتي أجهضن إلى التوبة. إنّ محاربة الإجهاض، التي تلجأ إليها النساء، أحياناً، بسبب الحاجة المادّيّة الشديدة والعجز، تتطلّب من الكنيسة والمجتمع وضع تدابير فعالة لحمايّة الأمومة، بالإضافة إلى توفير الظروف لتبنّي الأطفال الذين لا تستطيع الأمّ تربيتهم لأسباب مختلفة.
في العقود الأخيرة، حاولت البلدان التي تعتبرت نفسها مسيحيّة أن تفرض على العالم بأسره نظاماً من القيم لا يتعارض مع تعاليم الإنجيل، فحسب، بل يتعارض، أيضاً، مع الأسس الأخلاقيّة الإنسانيّة العالميّة والفطرة السليمة. ومع ذلك، من الواضح بالنسبة لكلّ مؤمن أنّ المثل الأخلاقيّة التي أمر بها الله هي الأساس الذي لا يتزعزع للحياة والتطوير الناجح لكلّ فرد والمجتمع بعامّة، ولا تخضع للمراجعة لصالح فئات وأمزجة سياسيّة معيّنة. إنّ الحفاظ على قواعد الأخلاق التقليديّة والموافقة عليها هو مفتاح بقاء ومستقبل كلّ الحضارة الإنسانيّة.
باستخدام آليّات التفاعل بين الأديان وبين الطوائف وبين الكنيسة والدولة والكنيسة والجمهور، وإدراكًا للأهمّيّة الخاصّة للشهادة المشتركة في هذا المجال، فإنّنا مدعوّون للدفاع عن القيّم الأخلاقيّة التقليديّة بكلّ الوسائل المتاحة والمبرّرة أخلاقيّاً.
في الختام، أودّ أن أشير إلى أنّه منذ تأسيس أكسارخوسيّة بطريركيّة موسكو في أفريقيا في كانون الأوّل 2021، نهتمّ بملاجئ الأيتام في كينيا: دار أيتام القدّيس بطرس الرسول في ريغن والقدّيس أثناسيوس الكبير في نيابيغيغ.
يراعي بهما كاهنانا الأب ثيودورس (أورو) والأب هيرموهين (أوتار). للأسف، عندما ذهبنا إلى أفريقيا، واجهنا تدهوراً خطيراً من حيث البنية التحتيّة المجتمعيّة والاقتصاديّة والظروف المعيشيّة الأساسيّة للناس. على سبيل المثال، في الملاجئ المذكورة لم يكن هناك حتّى مياه جاريّة وكهرباء. طبعاً، قمنا بتصحيح ذلك. وحتّى يومنا هذا، نبذل قصارى جهدنا، ونقدّم المساعدة، ونقوم بالبناء والتجهيز والتحسين، واقتناء المداجن والماشيّة لساحات الملاجئ المنزليّة. ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل.
في النهاية، أعبر عن ثقتي في أنّ الأفكار الرئيسيّة التي أعربت عنها في هذا المنتدى سوف يستمع إليها المجتمع، وسوف تنعكس على سياسة الدولة والأنشطة التعليميّة والاجتماعيّة، وكذلك في مزيد من التعاون بين الكنيسة والدولة.
أتمنّى لجميعكم معونة الله التي تشدّد الكلّ والعمل المثمر وكلّ النجاح في العمل النبيل والمنشود اليوم لحماية حقوق الأطفال.